لا يملك أكثر الناس طموحًا في الحياة أو رغبة في النجاح؛ لمجرد أنهم فقراء. يظن هؤلاء أن المال وحده يحقق لك ما تريد، دون أن يفكروا أنهم مَن يصنعون المال، وأن المال في النهاية ليس هو الهدف؛ بل يجب أن يكون هدفك في الحياة أن تكون سعيدًا. ظروفك ليست من صنعك، لكن مستقبلك بيدك أنت، لا بيد الآخرين.
معاناة وكفاح منذ الصغر
وُلِد محمد الطراد عام 1948 في عشيرة من البدو الرحل في صحراء سوريا؛ حيث الفقر والمعاناة. كان أبوه رجلًا قاسيًا غليظ القلب، وذا نفوذ في عشيرته. ماتت أمه وهو في ابن أربع سنوات، وتخلى عنه أبوه، ولم يهتمَّ به؛ لذا ربَّته جدته لأمه. لم تظن الجدة يومًا أن هذا الصغير الذي يعيش في صحراء قاحلة قد يصبح يومًا واحدًا من أغنياء العالم؛ فما كنت تشك في أنه سيكون راعي إبل مثله أهل البادية؛ لذا رأت أنه لا يحتاج إلى الذهاب إلى المدرسة. لكن حُبَّ محمد الطراد للتعلم دفعه إلى مقاومة الصعوبات، والالتحاق بالمدرسة. في البداية، كان ينظر عبر فجوات جدران الفصول؛ لكي يتعلم. وكان يمشي لمسافات حافيًا؛ كي يذهب إلى المدرسة حتى رآه أحد المدرسين، فسمح له بالحضور في الفصل الدراسي.
وبعد حين، رقَّ له والده، فكان يزوره ليطمئن عليه، واشترى له درَّاجةً؛ لكن محمد الطراد أراد قلمًا ودفترًا ليكتب دروسه؛ لذا لم يفرح بتلك الدرَاجة، بل كان يؤجرها لأقرانه، ويشتري بما يكسبه أدوات مدرسية.
وقد جاءته الفرصة للالتحاق بالمدرسة حين انتقلت العشيرة إلى مدينة الرقة؛ فنبغ كثيرًا في دراسته حتى فاق أقرانه، الذين لم يقبلوا أن يتفوق عليهم راعٍ من البادية؛ لذا حملوه إلى خارج المدرسة، وحفروا حفرة، ثم رَمَوْهُ فيها. لم يشغل محمد الطراد نفسه بالشعور بالمهانة أو الدونية الاجتماعية، بل استكمل طريقه بكفاح.
ثم طرق الحظ بابه حين اتفق زوجان من عشيرته لم ينجبا على رعايته، فأكمل دراسته المدرسية بنجاح. لقد أكسبته معاناته التي عايشها، وتجارب حياته القاسية، الكثير من الخبرة والوعي والإصرار. وفي سن العشرين، حين كان جنديًّا في الجيش السوري، حصل على منحة دراسية إلى أوكرانيا للتدرب على الطيران الجوي؛ لكن التدرب على الطيران الجوي في جامعة أوكرانيا كان للسوفيت فقط. لذا، عرضوا على محمد الطراد عروضًا، كان ثالثها الدراسة في فرنسا.
لم يشعر محمد الطراد بخيبة الأمل، ولم يتمسك برغبته في التدرب على الطيران الجوي، بل اتَّسَم دائمًا بالمرونة، وتقبل المفاجآت منذ الصغر. لذا، قبل الدراسة في فرنسا، خاصةً أنه كان مُعجبًا بشخصية الأديب الفرنسي فيكتور هوجو، والزعيم شارل ديجول. سافر محمد الطراد إلى فرنسا، لكنه لم يكن يعرف الفرنسية، ولم يملك من المال ما يكفي إلا لوجبة واحدة في اليوم! لكنه رغم ذلك درس الإعلاميات، وثابر حتى حصل على درجة الدكتوراه في علوم الحاسوب، وأتقن ثماني لغات منها الفرنسية بالطبع.
التحول إلى مجال المقاولات
بعد تخرجه، عمل محمد الطراد مهندس حاسوب في شركة أكاتيل، ثم شركة طومسون، ثم سافر إلى أبوظبي؛ حيث عمل في شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) لمدة أربعة أعوام. وبعد عودته إلى فرنسا، أسس شركة في مجال الحاسوب، ثم باعها بعد عام، واشترى عددًا من شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة، المتخصصة في الصقالات.
لقد كان لدخوله عالم المقاولات أثرًا كبيرًا؛ إذ لم يكن قطاع المقاولات في فرنسا يعرف حينها الصقالات واستعمالها في البناء، فحقق بذلك نجاحًا باهرًا في تطوير العمل وتيسيره. صحيح أن محمد الطراد لم يكن خبيرًا في المقاولات، لكنه كان ذكيًّا؛ إذ وظف أفضل أصحاب الكفاءات والخبرات في مجال المقاولات، ولم يدخر جهدًا في إضفاء رؤيته الخاصة على العمل في شركته الصغيرة حتى أسَّس “مجموعة شركات الطراد للمقاولات”، الرائدة على المستوى الأوروبي في مجال المقاولات، والتي تغطي أعمالها الآن أكثر من 100 دولة حول العالم.
تمثلت رؤية محمد الطراد في توفير بيئة عمل قائمة على احترام الثقافات المختلفة لجميع العاملين، والحفاظ على جوٍّ أسري، يشعر فيه الجميع بالسعادة، وتوظيف أصحاب الكفاءات والخبرات. وفي عام 2015، حصل محمد الطراد على الجائزة العالمية الأولى للمقاول. وحصل أيضًا على الوسام الفرنسي جوقة الشرف.
ونتيجة لهذه النجاحات، دعاه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند إلى تقديم العون للحكومة الفرنسية في تحسين الأحوال الاقتصادية لفرنسا. وكذلك دعاه عشاق رياضة الرجبي في مدينة مونبلييه -حيث مقرِّ مجموعة الطراد للمقاولات- إلى شراء نادي مونبلييه للرجبي، وإنقاذه من الإفلاس. وبالفعل، لبَّى محمد الطراد تلك الدعوة؛ لأنها منسجمة مع رؤيته للحياة، التي أعلنها دائمًا، والتي تقوم على أن المال ليس هدفًا، بل هو وسيلة لخدمة المجتمع والإنسانية. اشترى محمد الطراد نادي مونبلييه للرجبي عام 2011، وضخَّ فيه من ماله الخاصِّ حتى أصبح واحدًا من أقوى الأندية في فرنسا وأوروبا، وحصد الكثير من البطولات.
شخصية محمد الطراد
ربما تظن أن محمد الطراد من المقاولين الذين يعملون ليل نهار، ولا يكترثون إلا للمال فقط. هذا غير صحيح؛ حيث إن محمد الطراد مهتم كثيرًا بالأدب وله أعمال أشهرها “البدوي” التي اختارتها وزارة التعليم الفرنسية لتدريسها في مدارس فرنسا. وهو محبٌّ أيضًا للرياضة؛ حيث يملك نادي مونبلييه للرجبي، الذي يحتل الآن المركز الثالث في الدوري الفرنسي لرياضة الرجبي. وهو كذلك مهتمٌّ كثيرًا بالأعمال الخيرية والإنسانية، ولطالما كانت نصيحته للآخرين أن يجعلوا المال وسيلة لخدمة المجتمع، لا هدفًا في حَدِّ ذاته.
أين الأسرة من كل هذا؟! لقد أنشأ محمد الطراد مبنى مجموعة الطراد بجوار أسرته؛ كي يحافظ على التواصل معهم دائمًا، وقضاء الوقت مع أبنائه وأحفاده. ربما تدخل حفيدته إلى مكتبه في أثناء اجتماع عمل، دون أن يغضب من ذلك. قد يجد أفراد الاجتماع هذا الأمر غريبًا، لكن دهشتهم تزول حين يشرح لهم محمد الطراد نظرته للحياة.
ليس هذا فحسب، بل إن الحياة في مجموعة الطراد أشبه بالعائلة؛ حيث كل مَن فيها يعرف الآخرين، ويسود بينهم الاحترام والمودة، واحترام ثقافة كل منهم. وهذا أحد أسباب نجاح مجموعة الطراد للمقاولات؛ حيث إن بيئة العمل هذه تحفز جميع العاملين في المجموعة -وعددهم 17 ألف حول العالم- على العمل بجدٍّ وابتكار.
حوار مع محمد الطراد
بعد حصول محمد الطراد على الجائزة العالمية الأولى للمقاول عام 2015، أجرت مجلة “باريس ماتش” الفرنسية هذا الحوار معه.
المحاور: ماذا يمثل لك حصولك على هذه الجائزة العالمية الأولى للمقاول؟
الطراد: أنا لم أحصل على هذه الجائزة، بل حصلت عليها فرنسا. إن هذا أشبه بالفوز بكأس العالم 1998، لكن لم يفز زيدان أو ترام وحدهما؛ بل فاز الفريق الفرنسي. ولا أنسى أنني سوري الأصل، ولا أنسى فضل الحكومة السورية عليَّ حين قدمت لي منحة للدراسة هنا في فرنسا.
المحاور: لقد اغتصب أبوك والدتك مرتين، ثم تخلى عنك في صغرك، ولكنك حافظت على الاتصال به؛ فماذا؟!
الطراد: في حياة البدو الرحل، يسيطر الرجال الأقوياء على كل شيء، ولهم جميع الحقوق. حتى إنهم يستطيعون الزواج بأي امرأة ولو كانت فتاة صغيرة، لم تتجاوز الثالثة عشرة. لقد اغتصبها مرتين وهي في سِنٍّ تزيد قليلًا عن العاشرة، فولدت في المرة الأولى أخي الأكبر، ثم ولدتني في المرة الثانية.
بعد ذلك بسنوات قلائل، ماتت بسبب معاملته القاسية، وكذلك مات أخي الأكبر. لقد تخلى أبي عني واغتصب أمي وقتل أخي الأكبر، لكنني لست ذلك الرجل الذي يسعى إلى الانتقام. لقد تحسَّنت العلاقة بيننا قليلًا في صغري، فكان يزورني ويدعوني إلى العمل معه. إنه الآن مُصاب بالزهايمر، ويجب أن أقدم له الرعاية المناسبة.
المحاور: هل تعاني العنصرية في فرنسا؛ لأنك سوري الأصل؟ هل يزعجك أن يصفك الآخرون بأنك فرنسي من أصل سوري؟
الطراد: إن ما يجري هنا مؤسف جدًّا؛ خاصة في الضواحي. بينما كنت أتحدث عن روايتي “البدوي” في كليات الضواحي، كنت أسمع بعض الناس يهمسون أن فرنسا عنصرية وتعادي الوافدين. هذا ليس صحيحًا! انظروا إليَّ؛ لقد ولدت في سوريا؛ حيث المعاناة والقهر. أما أنتم هنا في فرنسا، فآمنون وتحصلون على الرعاية الصحية مجانًا. هنا، قد تبدأ صغيرًا، لكن بإمكانك أن تصبح كبيرًا؛ وهذه هي رسالة كتابي “البدوي”.
المحاور: لكن لماذا كتبت رواية عن نفسك، ولم تكتفِ بسيرة ذاتية بسيطة؟
الطراد: أنا غربي، لكنني من داخلي شرقي. أردت فقط أن أتحدث عن داخلي الذي لا يراه أحد. أردت أن أتحدث عما أشعر به.
المحاور: أي نوع من المقاولين أنت؟
الطراد: دائمًا ما ينظر الناس إلى المقاول على أنه شخص يسعى إلى جمع المال وتكوين ثروة ضخمة، لكن نظرتي أنا إلى المقاولة مختلفة. أنا أكتب، وأهتم بالرياضة، وأشارك في الأعمال الخيرية. يجب على المقاول أن يعتني بنجاح شركته، وسعادة العاملين فيها، وأن يبذل جهده لنفع المجتمع.
لقد اشتريت نادي مونبلييه للرجبي في وقت كان فيه معرضًا للإفلاس، وتسريح عدد كبير من العاملين فيه؛ حيث كانت إدارته تتألف من هواة، لا دراية لهم برياضة الرجبي. لقد اشتريت النادي ومنحته المال؛ تعبيرًا عن شكري لهذا المجتمع الذي ساندني ذات يوم، ولكيلا لا يقول أحد إن فرنسا ضيعت وقتها في مساعدة ذلك الرجل البدوي.
المحاور: ما رأيك في الأداء الاقتصادي للحكومة الفرنسية؟ هل يحقق هذا الأداء ما ينتظره الناس؟
الطراد: لا أحب أن أتحدث في هذا الأمر كثيرًا. أعلم أن الأزمات وانتشار البطالة يمثلان ضغطًا على الحكومات، لكن في رأيي تكمن المشكلة في أننا لا نعي نقاط قوتنا. إن الأمة الفرنسية تعاني أزمة ثقة. وهذا ما قاله الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، لكن الكلام وحده ليس كافيًا، بل يجب أن نبدأ العمل.
* حقق محمد الطراد نجاحًا بارزًا في انتشال نادي مونبلييه للرجبي من شبح الإفلاس؛ حيث استعان بأفضل المواهب والخبرات العارفة برياضة الرجبي وإدارتها. والآن يحتل نادي مونبلييه للرجبي المركز الثالث في الدوري الفرنسي لرياضة الرجبي، وحصل على عدد من البطولات منذ اشتراه محمد الطراد عام 2011.
دروس من حياة محمد الطراد
يقول محمد الطراد: “الشركة عبارة عن مجموعة من الأفراد العاملين، إذا كانوا سعداء، فسيزداد اجتهادهم، وستزداد كفاءتهم. لا يجب أن يكون وقتك كله لجمع المال؛ فهذا ليس هدفًا في الحقيقة، بل إنه نتيجة. المال الذي تجنيه ليس إلا نتيجة عملك واجتهادك. أما الهدف الحقيقي، فأن تعيش حياتك وتسعد بها. انفتح على العالم من حولك، وتعلم وتفاءل؛ والأهم أن تؤمن بنفسك”.
- لم يستسلم محمد الطراد لظروف نشأته، وما تعرضت له والدته وأخوه، وما تعرض له هو نفسه من سوء معاملة أبيه. لقد ذكر في مقابلة مع قناة فرانس 24 أنه أدرك منذ صغره أن حياته لن تتغير إلا بالتعليم؛ لذا سعى إلى التعلم ولو بالاستماع إلى الدروس من الخارج.
- حين خاب أمل محمد الطراد في التدرب على الطيران الجوي في أوكرانيا، لم يقل: “خسرت فرصتي. سأعود إلى سوريا مرةً أخرى”؛ بل بحث عن فرصة أخرى في مكان آخر. تخيل لو أنه عاد إلى سوريا ولم يسافر إلى فرنسا! ما كان ليحقق ذلك النجاح الذي حققه؛ لذا ابحث عن الفرص في حياتك، ولا تتوقف عند فرصة واحدة.
- ذكر محمد الطراد في مقابلة مع قناة فرانس 24 أنه اتجه إلى مجال المقاولات حين وجد الظروف لا تتيح له النجاح في مجال الحاسوب. لقد أدرك أن مجال الحاسوب لن يتطور كثيرًا وقتها في فرنسا؛ لذا سعى إلى تغيير نفسه وعمله. يجب أن تكون مرنًا في تقبل أحداث الحياة. لا تصرَّ على شيء لا يمكنك النجاح فيه، واسْعَ إلى وجهة أخرى.
- ينصحك محمد الطراد بأن تعيش حياتك، وأن تشعر بالسعادة؛ كي تنطلق إلى النجاح في عملك. إن أمضيت حياتك في جمع المال، فستمضي دون أن تستمتع بها. المال ليس هدفًا للحياة، ولا يَجدُر بك أن تجعله هدفك. المال ما هو إلا وسيلة تحقق بها سعادتك وسعادة مَن حولك.
- يهتم محمد الطراد بالأعمال الخيرية والإنسانية لدعم مجتمعه، ولرَدِّ الجميل إليه. كما أن الأعمال الخيرية تعلمك معنى العطاء، وتمنحك السعادة حين تمنح غيرك السعادة.
- يرى محمد الطراد أن كل عمل هو عبارة عن مغامرة يجب أن تخوضها؛ فهذه هي الحياة. الحياة مغامرة كبيرة عليك أن تعيشها، وأن تقتنص منها فرصًا قدر المستطاع.
يمكنك قراءة المقال التالي: هل تمتلك سمات القائد الناجح؟